فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد وُصف القرآن بصفتين عظيمتين كل واحدة منهما تحتوي على ثناء عظيم وتنبيه للتدبر فيهما.
وقد ذُكر فعل النزول مرتين، وذكر له في كل مرة متعلق متماثل اللفظ لكنه مختلف المعنى، فعلق إنزال الله إياه بأنه بالحق فكان معنى الحق الثابت الذي لا ريب فيه ولا كذب، فهو كقوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2] وهو رد لتكذيب المشركين أن يكون القرآن وحيًا من عند الله.
وعلق نزول القرآن، أي بلوغه للناس بأنه بالحق فكان معنى الحق الثاني مقابلَ الباطل، أي مشتملًا على الحق الذي به قوام صلاح الناس وفوزهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل} [الإسراء: 81]، وقوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105].
وضمائر الغيبة عائدة إلى القرآن المعروف من المقام.
والباء في الموضعين للمصاحبة لأنه مشتمل على الحق والهدي، والمصاحبة تشبه الظرفية.
ولولا اختلاف معنى الباءين في الآية لكان قوله: {وبالحق نزل} مجرد تأكيد لقوله: {وبالحق أنزلناه} لأنه إذا أنزل بالحق نزل به ولا ينبغي المصير إليه ما لم يتعين.
وتقديم المجرور في المَوضعين على عامله للقصر ردًا على المنكرين الذين ادعوا أنه أساطير الأولين أو سحر مبين أو نحو ذلك.
جملة معترضة بين جملة {وبالحق أنزلناه} وجملة {وقرآنا فرقناه} [الإسراء: 106].
أي وفي ذلك الحق نفع وضر فأنت به مبشر للمؤمنين ونذير للكافرين.
والقصر للرد على الذين سألوه أشياء من تصرفات الله تعالى والذين ظنوا أن لا يكون الرسول بشرا.
{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)}.
عطف على جملة {أنزلناه} [الإسراء: 105].
وانتصب {قرآنًا} على الحال من الضمير المنصوب في {فرقناه} مقدمة على صاحبها تنويهًا الكون قرآنًا، أي كونه كتابًا مقروءًا.
فإن اسم القرآن مشتق من القراءة، وهي التلاوة، إشارة إلى أنه من جنس الكلام الذي يحفظ ويتلى، كما أشار إليه قوله تعالى: {تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} [الحجر: 1]، وقد تقدم بيانه.
فهذا الكتاب له أسماء باختلاف صفاته فهو كتاب، وقرآن، وفرقان، وذكر، وتنزيل.
وتجري عليه هذه الأوصاف أو بعضها باختلاف المقام، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وقرآن الفجر} [الإسراء: 78] وقوله: {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20] باعتبار أن المقام للأمر بالتلاوة في الصلاة أو مطلقًا، وإلى قوله: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1] في مقام كونه فارقًا بين الحق والباطل، ولهذا لم يوصف من الكتب السماوية بوصف القرآن غيرُ الكتاب المنزل على محمد.
ومعنى {فرقناه} جعلناه فِرَقًا، أي أنزلناه منجمًا مفرقًا غير مجتمع صبُرة واحدة.
يقال: فرق الأشياء إذا باعد بينها، وفرق الصبرة إذا جزأها.
ويطلق الفرق على البيان لأن البيان يشبه تفريق الأشياء المختلطة، فيكون {فرقناه} محتملًا معنى بيناه وفصلناه، وإذ قد كان قوله: {قرآنًا} حالًا من ضمير {فرقناه} آل المعنى إلى: أنا فرقناه وأقرأناه.
وقد عُلل بقوله: {لتقرأه على الناس على مكث}.
فهما علتان: أن يُقرأ على الناس وتلك علة لجعله قرآنًا، وأن يقرأ على مُكْث، أي مَهل وبطء وهي علة لتفريقه.
والحكمة في ذلك أن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين.
وجملة {ونزلناه تنزيلًا} معطوفة على جملة {وقرآنا فرقناه}.
وفي فعل {نزلناه} المضاعف وتأكيده بالمفعول المطلق إشارة إلى تفريق إنزاله المذكور في قوله: {وبالحق أنزلناه} [الإسراء: 105].
وطوي بيان الحكمة للاجتزاء بما في قوله: {لتقرأه على الناس على مكث} من اتحاد الحكمة.
وهي ما صَرح به قوله تعالى: {كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا} [الفرقان: 32].
ويجوز أن يراد: فرقنا إنزاله رعيًا للأسباب والحوادث.
وفي كلام الوجهين إبطال لشبهتهم إذ قالوا: {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32].
{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)}.
استئناف خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليلقنه بما يقوله للمشركين الذين لم يؤمنوا بأن القرآن منزل من عند الله، فإنه بعد أن أوضح لهم الدلائل على أن مثل ذلك القرآن لا يكون إلا منزلًا من عند الله من قوله: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88] فعجزوا عن الإتيان بمثله، ثم ببيان فضائل ما اشتمل عليه بقوله: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} [الإسراء: 89]، ثم بالتعرض إلى ما اقترحوه من الإتيان بمعجزات أخر، ثم بكشف شبهتهم التي يموهون بها امتناعهم من الإيمان برسالة بشَر، وبَيّن لهم غلطهم أو مغالطتهم، ثم بالأمر بإقامة الله شهيدًا بينه وبينهم، ثم بتهديدهم بعذاب الآخرة، ثم بتمثيل حالهم مع رسولهم بحال فرعون وقومه مع موسى وما عُجل لهم من عذاب الدنيا بالاستئصال، ثم بكشف شبهتهم في تنجيم القرآن؛ أعقب ذلك بتفويض النظر في ترجيح الإيمان بصدق القرآن وعدم الإيمان بقوله: {آمنوا به أو لا تؤمنون} للتسوية بين إيمانهم وعدمه عند الله تعالى فالأمر في قوله: {آمنوا} للتسوية، أي إن شئتم.
وجُزم {لا تؤمنوا} بالعطف على المجزوم.
ومثله قوله في سورة الطور (16) {فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم}، فحرف {لا} حرف نفي وليس حرف نهي، ولا يقع مع الأمر المراد به التسوية إلا كذلك، وهو كناية عن الإعراض عنهم وا حتقارهم وقلة المبالاة بهم، ويندمج فيه مع ذلك تسلية الرسول.
وجملة {إن الذين أوتوا العلم} تعليل لمعنى التسوية بين إيمانهم به وعدمه أو تعليل لفعل {قل}، أو لكليهما، شأن العلل التي ترد بعد جُمل متعددة، ولذلك فصلت.
وموقع {إن} فيها موقع فاء التفريع، أي إنما كان إيمانكم بالقرآن وعدمُه سواء لأنه مستغن عن إيمانكم به بإيمان الذين أوتوا العلم من قبل نزوله، فهم أرجح منكم أحلامًا وأفضل مقامًا، وهم الذين أوتوا العلم، فإنهم إذا يسمعونه يؤمنون به ويزيدهم إيمانًا بما في كتبهم من الوعد بالرسول الذي أنزل هذا عليه.
وفي هذا تعريض بأن الذين أعرضوا عن الإيمان بالقرآن جهلة وأهل جاهلية.
والمراد بالذين أوتوا العلم أمثالُ: ورقة بن نَوفل، فقد تسامع أهل مكة بشهادته للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن آمن بعد نزول هذه السورة من مِثل: عبد الله بن سلام، ومعيقيب، وسَلمان الفارسي.
ففي هذه الآية إخبار بمغيّب.
وضمائر {به} و{من قبله} {ويتلى} عائدة إلى القرآن.
والكلام على حذف مضاف معلوم من المقام معهود الحذف، أي آمنوا بصدقة.
ومن قبل نزوله.
والخرور: سقوط الجسم.
قال تعالى: {فخر عليهم السقف من فوقهم} [النحل: 26].
وقد تقدم في قوله: {وخر موسى صعقًا} في سورة الأعراف [143]. واللام في {للأذقان} بمعنى على كما في قوله تعالى: {وتله للجبين} [الصافات: 103]، وقول تأبط شرًا:
صريعًا لليدين وللجران

وأصل هذه اللام أنها استعارة تبعية. استعير حرف الاختصاص لمعنى الاستعلاء للدلالة على مزيد التمكن كتمكن الشيء بما هو مختص به. والأذقان: جمع الذَقَن بفتح الذال وفتح القاف مجتمع اللحيين. وذكر الذقن للدلالة على تمكينهم الوجوه كلها من الأرض من قوة الرغبة في السجود لما فيه من استحضار الخضوع لله تعالى و{سجدًا} جمع ساجد، وهو في موضع الحال من ضمير {يخرون} لبيان الغرض من هذا الخرور، وسجودهم سجود تعظيم لله عند مشاهدة آية من دلائل علمه وصدق رسله وتحقيق وعده.
وعطفت {ويقولون سبحان ربنا} على {يخرون} للإشارة إلى أنهم يجمعون بين الفعل الدال على الخضوع والقول الدال على التنزيه والتعظيم.
ونظيره قوله: {خروا سجدًا وسبحوا بحمد ربهم} [السجدة: 15].
على أن في قولهم: {سبحان ربنا} دلالة على التعجب والبهجة من تحقق وعد الله في التوراة والإنجيل بمجيء الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم وجملة {إن كان وعد ربنا لمفعولا} من تمام مقولهم.
وهو المقصود من القول، لأن تسبيحهم قبله تسبيح تَعجب واعتبار بأنه الكتاب الموعود به وبرسوله في الكتب السابقة.
و{إن} مخففة من الثقيلة، وقد بطل عملها بسبب التخفيف، ووليها فعل من نواسخ المبتدأ جريًا على الغالب في استعمال المخففة.
وقرن خبر الناسخ باللام الفارقة بين المخففة والنافية.
والوعد باق على أصله من المصدرية.
وتحقيق الوعد يستلزم تحقيق الموعود به فحصل التصديق بالوعد والموعود به.
ومعنى {مفعولا} أن الله يفعل ما جاء في وعده، أي يكونه ويحققه، وهذا السجود سجود تعظيم لله إذ حقق وعده بعد سنين طويلة.
وقوله: {ويخرون للأذقان يبكون} تكرير للجملة باختلاف الحال المقترنة بها، أعيدت الجملة تمهيدًا لذكر الحال.
وقد يقع التكرير مع العطف لأجل اختلاف القيود، فتكون تلك المغايرة مصححة العطف، كقول مُرة بن عَداء الفقعسي:
فَهَلاّ أعدُّوني لِمثلي تفاقدوا ** إذا الخصم أبْزى مائلُ الرأس أنكبُ

وهلا أعدوني لِمثلي تفاقدوا ** وفي الأرض مبثوث شُجاع وعقربُ

فالخرور المحكي بالجملة الثانية هو الخرور الأول، وإنما خروا خرورًا واحدًا ساجدين باكين، فذكر مرتين اهتمامًا بما صحبه من علامات الخشوع.
وذكر {يبكون} بصيغة المضارع لاستحضار الحالة.
والبكاء بكاء فرح وبهجة.
والبكاء: يحصل من انفعال باطني ناشىء عن حزن أو عن خوف أو عن شوق.
ويزيدهم القرآن خشوعًا على خشوعهم الذي كان لهم من سماع كتابهم.
ومن السنة سجود القارىء والمستمع له بقصد هذه الآية اقتداء بأولئك الساجدين بحيث لا يذكر المسلم سجود أهل الكتاب عند سماع القرآن إلا وهو يرى نفسه أجدر بالسجود عند تلاوة القرآن. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل هذا القرآن بالحق: أي متلبسًا به متضمنًا له. فكل ما فيه حق. فأخباره صدق، وأحكامه عدل. كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] وكيف لا! وقد أنزله جل وعلا بعلمه. كما قال تعالى: {لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] الآية، وقوله: {وبالحق نَزَل} يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله. لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوي لا يغلب عليه حتى يغير فيه، أمين لا يغير ولا يبدل. كما أشار إلى هذا بقوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193-194] الآية، وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19-21] الآية، وقوله: في هذه الآية: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} أي لتبليغه عن ربه. بدلالة لفظ الرسول لأنه يدل على أنه مرسل به.
قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ}. قرأ هذا الحرف عامة القرآء {فَرَقْنَاهُ} بالتخفيف: أي بيناه وأوضحناه، وفصلناه وفرقنا فيه بين الحق والباطل.
وقرأ بعض الصحابة {فرقناه} بالتشديد: أي أنزلناه مفرقًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة. ومن إطلاق فرق بمعنى بين وفصل قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] الآية.
وقد بين جل وعلا أنه بين هذا القرآن لنبيه ليقرأة على الناس على مكث، أي مهل وتؤدة وتثبت، وذلك يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يقرأ إلا كذلك. وقد أمر تعالى بما يدل على ذلك في قوله: {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] ويدل لذلك أيضًا قوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] وقوله تعالى: {وَقُرْآنًا} منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده. على حد قوله في الخلاصة:
فالسابق انصبه بفعل أضمرا ** حتما موافق لما قد أظهرا

اهـ.